لنثبت به فؤادك (14)
إن الإيمان بالقدر لا يعارض الأخذ بالأسباب المشروعة، بل الأسباب مقدَّرة أيضاً كالمسببات،
فمن زعم أن الله تعالى قدّر النتائج و المسببات من غير مقدماتها وأسبابها، فقد ذهل عن حقيقة القدر، وأعظم على الله الغرية،
فالأسباب مقدّرة كالمسببات،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الرّقي،
هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: هي من قدر الله، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
كانت قائمة على الأخذ بالأسباب وسيرته تشهد بأنه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل.
إن سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً بالله وقضائه وقدره وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لقد قاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم،
وقاوم المرضى بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد وكان يستعيد بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل،
وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء،
وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل. وقال: وفر من المجذوم فرارك من الأسد
وما غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم المظفرة إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش،
لنثبت به فؤادك (14)
وبعث الطلائع والعيون وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة،
وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته،
أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطريق،
واختبأ في الغار. وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين
ولهذا يذهب ابن القيم إلى: أن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها، وأنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة إلا به،
فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها “أي الأسباب” لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها،
كذلك فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم،
أيضا لا يتم إسلامه وإيمانه إلآ بذلك “الإيمان”، وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله، وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون،
كذلك وبه نال أولياؤه رضاه، وجواره في جنته، وبها نصر حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه،
وبها إنقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها، والالتفاف إليها، والنظر إليها، هو الواجب شرعاً، كما هو الواقع قدراً