ثوابت التغيير (9)
ثوابت التغيير (9) مع أشرف الشربيني
إنضباط صف الصحابة
أي فكر أو معتقد جاء ليغير واقعا، يمر غالبا بمرحلة البدء، التي تمتاز بالسرية، والحيطـة، والحـذر.. ذلك لأن
أهل الفكر والمعتقد المراد تغييره، هم بالمرصاد لكل ما من شأنه أن يهدد مصالحهم.. وسيحاولون القضـاء
على المعتقدات، والأفكار الجديدة في مهدها.
ولهذا، لزم دعاة تلك الأفكار والمعتقدات الجديدة، اتخاذ جانب الحيطة، والحـذر، والتكـتم، حتـى يشـتد
ساعدهم.. أيضا ويكثر أتباعهم، فحينها يمكن الانتقال إلى الجهرية والظهور.. كما لا يتحقق ذلك إلا إذا اتبع دعاة تلك الأفكار والمعتقدات مناهج وأساليب دقيقة للحماية في كل خطوة يخطونها.. كذلك في اختيار نوعية من تقدم لهـم
الدعوة أولاً، وكيف، ومتى، وأين؟
اتفق أهل السير والتواريخ والكاتبون في تاريخ الدعوة المحمدية على أن الدعوة في مكة مرت بمرحلتين رئيستين
مرحلة الدعوة السرية:
أيضا وقد أخذت من عمر الدعوة المكية ثلاث سنوات عند أكثر المؤرخين والعلماء.. ثم بعد ذلك جاء الأمر بالجهر بالدعوة مع قوله تعالى في سورة الشعراء {وأنذر عشيرتك الأقربين}.. فقام النبي صلى الله عليه وسلم معلنا بدعوته صارخا بها في وجوههم، وداعيا إلى دينه فانتهت مرحلة الدعوة السرية وبدأت مرحلة الدعوة الجهرية.
الحكمة من سرية الدعوة
كذلك كان السبب لسرية الدعوة في بداياتها هو الحفاظ على الدعوة الناشئة وصيانتها من الهلاك والدمار.. فقد كانت نبته تحتاج لرعاية وعناية حتى تقوى وتتجذر ويصعب على المعاندين اقتلاعها.
ثوابت التغيير (9)
كانت الحكمة أن تكون الدعوة في أول أمرها سرا، يتلمس لها من يرجى منه الخير أو من لا يخاف عليها منه، لئلاً يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم ويثير حميتهم الجاهلية لآلهتهم وأصنامهم فتثور ثائرتهم على صاحب الدين الجديد.. خصوصا ومكة أنذاك مركز دين العرب، وموطن حجهم، ففيها بيت الله، وحولها كانت الأصنام والأوثان، وكان بمكة سدنة الكعبة والقائمون على هذه الأوثان والأصنام التي تقدسها قبائل العرب بجميع طوائفهم في ذلك الزمان؛ ولهذا كانت مكة وجهة قلوب العرب الدينية والثقافية والتجارية، ولها في قلوبهم تمام التقدير والتقديس والحظوة والمكانة، وهو ما لن يفرط فيه أهل مكة وكفار قريش بل سيدافعون عنه دفاع المستميت.
فكانت الحكمة ألا يعلن ويجهر بالدعوة تأجيلا للمواجهة المحتومة حتى يقوى ساق نبتة الإسلام، وتتعمق جذوها وتقوى على مواجهة رياح الكفر العاتية وجبروت المنكرين المنتظر والمتأكد، وحتى يستطيع أصحابها الصبر والصمود أمام هذه الابتلاءات القادمة لا محالة.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ فجر الرسالة، حين أنزل الله عليه {يايها المدثر قم فأنذر} يتصفح الناس ويتخير من بينهم الأقرب لتصديقه والأرجى لقبول دعوته، ومن يطمع أن يوافقه على دينه وعقيدته من دون أن يجر على نفسه ودينه وأتباعه ويلات لا طاقة لهم بها في تلك البدايات.